وجه أسمر، كأنه منحوت من جذع شجرة صندل، يشع طيبة وثقة. ومنكب عريض، محشو بخليط من كبرياء ورئتان واسعتان يبدو أن لها مهمة واحدة: نفخ الغبار عن تراث موسيقى السودان. إنه "فلوت السودان" حافظ عبدالرحمن، الذي يحلم بحمل الموسيقى السودانية إلى مسارح العالم المضيئة.




في ليلة دافئة من ليالي شهر أبريل الماضي. امتلأت مقاعد صالة دار الشرطة في العاصمة السودانية الخرطوم. الهدوء كان مخيما فوق رؤوس كل الحضور، عنق يمتط من هنا، وآخر من هناك لرؤية حامل الحقيبة السوداء، وهو يدلف من الباب الرئيس بنظارة أنيقة ووجه أسمر، كأنه منحوت من جذع شجرة صندل، يشع طيبة وثقة.

له منكب عريض، محشو بخليط من كبرياء، ورئتان واسعتان يبدو أن لهما مهمة واحدة: نفخ الغبار عن تراث موسيقى السودان.

بصوت خاشع وكثير الامتنان، ألقى تحية المساء، وشكر الحضور، قبل أن يفتح صندوقه الأسود. قلب قليلا في مزاميره قبل أن يهمس لفرقته السباعية بالمقطوعة الأولى.

أغمض عينيه قبل أن يحبس أنفاسه وراح ينفخ بعاطفة واضحة على مبسم صفارته العتيقة، فغاب الزمان وتلاشى المكان ودبت قشعريرة الطرب، وروح الموسيقى في عروق الجميع، قبل أن يبادروا إلى طقطقة أصابعهم طربا، لينتظموا في صف طويل وهم (يتباشرون) رجالا ونساء بالقرب من رؤوس الفرقة الموسيقية.

قبيل إطفاء أنوار الحفل، وحبس سيل النغمات خلف أبواب القاعة المشرعة، كانت إجاباته حاضرة. وكان السؤال وهذا الحوار:


حقيبتك حبلى بآلات النفخ، بدت وكأنها قبعة ساحر. قبل كل مقطوعة كنت تستل منها قصبة تليق بالسلم الموسيقي. من أين تنبع كل هذه الأغاني؟

هذا هو سحر السودان وجماله. كان علي أن أصنع آلات ترقى إلى قدرة التعبير عن الموسيقى السودانية الغنية. كل آلة تترجم جانبا أصيلا في ثقافتنا المحلية. هذه قصبة مناسبة لأغنيات مخملية ناعمة، وتلك صنعتها على يدي لتناسب حال الأغاني ذات الإيقاع القوي. هذه ساعدتني على عزف إيقاع الجبل (جبل كردفان)، وتلك تبدو الأنسب لمحاكاة مقامات أهلنا (البقارة) الذين يقودون قطعان جمالهم وأبقارهم وهم يناجونها بأنغام كالحداء. وبهذه عزفت مقطوعة (عروس الغرب)، أيضا هناك آلات تناسب المقامات الخماسية المنتشرة والمتطورة في وسط السودان.

في الحقيقة موسيقى السودان لا تعبر عنها آلة واحدة.

تقول إن السودانيين يترجمون شجنهم دائما بلغة الدموع، وإنك تقف ضد هذه الفكرة؟

لا أحب الدموع، ولا أريد تساقطها من عين السودان. ليتنا نكتفي بأن يكون الشجن محض شجن. هناك مساحات واسعة للشجن، وفيه جزء مقدر من الفرح، يجب استغلاله.

نعم، أحيانا تقرر الدمعة ما إذا كان شجننا حزنا أو فرحا. لكنني لا أريد أن أعزف فيذرف المستمعون الدموع أمامي. هذا منظر لا أحبه، رغم أن صوت (الفلوت) أحيانا يثير ذكريات دامعة في دواخل الناس، قد تستدعي البكاء.

لكن من يستمع إلى موسيقاك يشعر أن ثمة تراتيل دينية تتدفق خلف بوحك المثير لشجن يتوقد منه وجد المريدين. هل تأثرت بأشعار العارف بالله (عبد الرحيم البرعي) الكردفاني؟

تربيت في بيئة متصوفة نوعا ما، وكان والدي يحرص على أن أصطحبه إلى حلقات الذكر وتحفيظ القرآن في كردفان. نعم في شخصيتي جانب صوفي لا أنكره.

الإنسان السوداني يعشق المدائح النبوية. كيف استطعت أن تترجم فيوضاتها الروحية في حروف الموسيقى السبعة؟

هذا صعب للغاية. المدح يعتمد على الكلمة، وتأثير الكلمة فيه أكثر. (الزول) السوداني ينسجم مع الكلمات في خاطره، وينسجم في المقابل مع الموسيقى في عمق اللحن، كون آلة "الفلوت" عميقة، أعمق من الصوت.

أزعم أنني نجحت في خلق المعادلة الصعبة، وأشعر أننا أثرينا الساحة بجمال معين، يفسره الدعوات الكثيرة التي توجه لنا لحضور الاحتفالات الدينية لأعزف فيها مدائح يعشقها الشعب السوداني عشقا شديدا.

متى بدأت رحـلة الـتوأمة مع آلة الفلوت؟

لم أعرف شيئا عنها قبل عام 1981. كنت أعزف قبلها بالصفارة (الناي). تعرفت عليها أثناء دراستي للموسيقى. عندما أقوم بجولات فنية خارج السودان، أشعر وكأنني مطالب بأن أعكس جميع الفنون السودانية. أحاول جاهدا أن أتحدث في موسيقاي عن توحيد أبناء الوطن الواحد. عن الثقافة الجميلة والغنية، عن المفاهيم والمبادئ المشتركة التي تربط الناس. صدقني، بعد كل حفل موسيقي في الداخل والخارج، أشعر وكأنني وحدت كل الفوارق ما بين المستمعين.

بالمناسبة، من تبنى موهبة حافظ عبدالرحمن. ولمن تدين بذلك؟

لا أحب أن أظهر الآن كرجل مغرور. وأرجو أن أكون صادقا عندما أقول إنه لم يدفعني أو يتبناني أحد، كما أني لم أتأثر بأحد. دعني أقول ذلك بمنتهى الصراحة.

ألا يشعرك ذلك بالمسؤولية أكثر للحفاظ على نهجك، وضمان امتداده الطبيعي عبر جيل جديد يحمل الشعلة؟

منطقيا، هذا شيء مهم جدا. لكن الآن من الصعب تكرار النماذج. البصمات لا تتكرر. نعم لدينا جيل جديد، لكن هناك فارق في العمق. ربما لأن زماننا كان أفضل حالا من زمانهم، وبيئتنا أكثر خضارا وجمالا ومليئة بمعانٍ جميلة كنا نعيشها وليست موجودة الآن بحكم الإيقاع السريع للحياة ذاتها. بصراحة، أنا لا أحسن هذا الدور (التبني). لدي الآن حلم يملأ الخاطر بالوقوف على المسرح الروماني الذي وقف عليه جورج زانفير، والمسارح التي وقف عليها سير جيمس غالوي في النمسا وألمانيا، وأن تعزف معي فرقتي هناك.

كل ما يشغل بالي الآن أن أصل بالموسيقى السودانية إلى جميع المسارح العالمية المضيئة، أذهب وأعود في رحلات تشبه رحلات الصيف والشتاء.

لماذا؟

لدي رسالة كبرى تجاه وطني. وأشعر أن هناك أشياء كثيرة يجب أن نعطيها وفاء للإنسان السوداني الذي يحوم حولي، ويلقاني باسما في الطرقات، ويحضر حفلاتي الموسيقية. وبالرغم من أنني طفت كثيرا في العالم، وكان لدي فرصة كبيرة لأن أعمل في الخارج لكنني أفضل أن أمضي بقية أيام عمري، وآخر أنفاسي هنا فوق تراب السودان.


مزمار السودان يصارع طواحين الانفصال بلغة الحروف السبعة

بقصبة "فلوت" ومزامير تملأ حقيبة عتيقة، يدوزن الموسيقار حافظ عبدالرحمن كل نوتة موسيقية شاردة أو واردة في بلده لمواجهة خطط التقسيم، وطواحين الانفصال. هو أكثر العارفين بأن لغة الموسيقى، ولاشيء غير حروفها السبعة، القاسم المشترك الذي لا يتناطح فيه رؤوس الوحدة، وقرون الانفصال في السودان اليوم.

رئتاه لم تشكوَا قط لهث أوداجه، وإدمان شفتيه على النفخ المتواصل بحثاً عن آذان مؤمنة، وقلوب مطمئنة بروح السلام ورفض جهنم الانقسام. رسالته واضحة " السودان وطن واحد، لا يقبل القسمة على اثنين". وكانت آيته شهيق من البوح الخالص، وزفير من الفرح الآتي، وبينهما نفحات وجدانية تقطر عذوبة وطربا وموسيقى تفوح منها رائحة كل ذرة تراب في بلاد المليون ميل.

بجهد فردي، وإيمان عميق، أمضى سحابة عمره لاهثا بين سهول أقاليم الشرق وصحارى الغرب، ونجود مناطق الشمال وأحراش الجنوب، بحثا عن مساقط النغم ومنابت المقامات الموسيقية بين تلافيف أكثر من 20 ولاية، تشكل بتنوعها وطبوغرافيتها فرقة أوركسترا السودان.


روح السودان

يقول الدكتور عبدالباسط عبدالماجد الذي تولى وزارتي الثقافة والتربية والتعليم في السودان في وقت سابق "حافظ استنطق آلة الفلوت وجعلها تعبر عما يريده من أغان وعلى كل المقامات". وزاد: "لقد حمل روح بلده وشخصيته إلى العالم، وأثبت انفتاح السودان وتعدديته، وأنه ليس بلدا إسلاميا منكفئا على ذاته. أهمية حافظ أنه بات ممثل السودان البلد الواحد، المتنوع الثقافات".

الوزير عبدالماجد يؤكد أن السودان يمتاز بإيقاعات قد لا توجد في كثير من الشعوب، بعضها أفريقي، والبعض الآخر عربي، وبينهما إيقاعات هجينة أفرو عربية. مشيرا إلى دور حافظ الكبير في تقديم إيقاعات قبائل السودان المختلفة، وتحويلها إلى موسيقى منوتة، بعد أن كانت موسيقى فطرية في منطقتها أو قبيلتها، ليقدمها للعالم أجمع بشكل يفهمها ويتذوقها. أضاف: "إذا تخيلنا أن في السودان نحو 580 قبيلة عربية وأفريقية، ويتحدثون 120 لغة، سنعرف حينها معنى الثقافة المتنوعة. فكل قبيلة لديها تراثها وموروثها الفني وإيقاعاتها الخاصة".


صوت "دارفور"!

في السنوات الماضية، صال حافظ عبدالرحمن وجال فوق كل مسرح عالمي للموسيقى، حاملا صورة بلده الحقيقية والمغيبة خلف الشاشات الفضية، وأحبار الصحف والمجلات. يقول"يمكنك أن تقول إني دعيت إلى كل أنحاء العالم". لم يفوت حافظ فرصة واحدة قط لبناء جسور تواصل مع سكان الأرض لإيصال صوت السودان الحقيقي، ومساعدتهم على فهم حقيقة ما يجري في بلاد النيلين.

كان أول فنان سوداني يعزف في مقر البنك الدولي، فحركت موسيقاه جلمود أرباب البنكنوت، وخازني اقتصاديات العالم، وبث دفء السودان وتباريحه في أوصال ليلة نيويوركية باردة من شهر سبتمبر 2006. اختلطت مشاعر الحضور وفغروا أفواههم دهشة من عذوبة ما سمعوه. يقول حافظ " صحيح أن السودان بلد كثير الديون. لكنهم لا يعلمون أن لدينا موسيقى غنية".


بعد أيام، حمل حقيبته وقصد مسرح قاعة "كيندي سنتر" في العاصمة الأمريكية واشنطن. كانت القاعة في انتظاره وهي مكتظة بجمهور عريض. عيون زرقاء اللون، تلمع بين سحنات أمريكية ينحدر بعضها من جذور أفريقية، ومغتربون جاءوا بأثواب وعمائم تقطر بياضا، ليشحنوا بطاريات الحنين لبلدهم الأم.

كانت حرب (دارفور) حاضرة في مشهد المسرح السياسي الدولي. وحرص الأميركان أن يخصصوا المناسبة الفنية عن أوزار هذه الحرب الآثمة. كان حافظ حاضرا بثقافته ولماحيته. وطفق يحاورهم بالكلمة تارة، وبالموسيقى تارة أخرى ليقرب (دارفور) إلى فهم الحضور.

كعادته، توسط المسرح ثم ألقى تحية المساء. استل عنق الميكرفون من صاريته، ووجه حديثا من قلبه إلى قلب جمهوره الأمريكي. قال بصوت خفيض " أعترف، لا أفهم كثيرا في السياسة. ما أفهمه أن الموسيقى تتكون من نغم وإيقاع. في بلدي السودان الإيقاع أفريقي، والنغم عربي. وبمزجهما معا خلقت الموسيقى السودانية". قبل أن يضيف في نبرة أعلى قليلا "إن كنتم تستطيعون أن تفصلوا بين الإيقاع والنغم، فإن إدارتكم السياسية حتما ستستطيع أن تفصل بين أبناء الوطن الواحد". يقول حافظ " بعد انتهاء الحفل، شعرت يومها أنه لأول مرة يفهم الأمريكيون حقيقة مشكلة دارفور. الموسيقى السودانية ساعدتهم على الفهم".


أول أسطوانة

قبل ذلك بسنوات، توجه وحيدا إلى عاصمة النور باريس. طرق أبواب شركة "ميديا 7" وهو يحمل تسجيلا لموسيقاه. استقبله موظفو الشركة ببرود ظاهر. قالوا له "ضع الكاسيت، وعنوانك هناك، وسنتصل بك لاحقا". خرج من باب الشركة وهو يتميز من الغيظ. كانت السماء أرحم، وكان المطر كفيلا بإطفاء جذوة غضبه. في اليوم التالي أيقظه رنين الهاتف المتواصل، رفع السماعة وكان الصوت مختلفا " سيد حافظ، أرجوك أحضر فورا إلى مقر الشركة". كان السؤال الأول (لمن هذه الموسيقى؟). أجاب: من تأليفي!.

فجأة تحول برود الاستقبال إلى حفاوة بالغة. ولم يكن اليوم شبيها بالبارحة. اعتذروا منه بأسف شديد وقالوا له"نحن مندهشون للغاية. كيف تنتج موسيقى لم تسمع بها ميديا سبعة قبل اليوم؟". ووصفوا موسيقاه" لديك نغمة خاصة فيها بوح ظاهر ووصول مباشر إلى الإنسان" قبل أن يوافقوا على الفور بإنتاج أول أسطوانة ممهورة باسمه. الآن هناك ألبومه الأخير (الليالي الأخيرة) مسجلا باسمه ومتوفرا في موقع المتجر الإلكتروني أمازون دوت كوم.

بعد نحو أربعين عاما، حاز حافظ عبدالرحمن جوائز عدة. أكبرها حب الناس لفنه، وتسابق الشركات التلفزيونية العالمية للتعاقد معه، وتأليف مقطوعات موسيقية خاصة لبرامجها الوثائقية العالمية عن السودان والعالم العربي. في موسيقاه التصويرية، تسمع صوت خرير موجات النيلين، وزقزقة الطيور، وحفيف أغصان الشجر وورقه. وبين مقاماته وسلّمه الموسيقي لابد أن تضطرب توجدا مع سماع نشيج العاكفين في خلواتهم، وضجيج مقاهي المساء، وضحكات الأطفال الصغار في مهودهم، وحداء رعاة يسوقون قطعانا من الضأن والإبل والبقر.

في مقطوعة (حلم الغد) التي أهداها حافظ لبناة سد مروي العملاق، كانت الموسيقى تستنطق الآثار والأوابد بكل بهائها العتيق. ولم يكن لغيره القدرة على إعادة دولاب الزمان، وتكثيف الصدى، وإحياء أجداث الشخوص ورميم الشواهد، لتحكي قصة ما كان وراء صخور أهرامات مملكة نبتة، بكل تفاصيلها الدقيقة.

في موسيقاه خلاصة حقول قصب السكر في السودان. وفيها تفسير واضح ومنطقي لكل ما هو جميل ومفرح في حياة بسطاء هذا البلد المسكون في ذاكرة النسيان العربية. هو مقيم في ذاكرة الإنترنت الحية (اليوتيوب) ويتابعه الملايين وهو يهيم بفنه ليحيي ليالي أفراح الناس ومناسباتهم السعيدة، في الداخل والخارج. حافظ عبدالرحمن، عند تلخيص سيرته الفنية، يبدو كراع بدرجة موسيقار، يهش بقصبة "فلوت" وراء كل نغمة أو نوتة تترنم فوق تراب وطنه الكبير.

السودان شيء آخر.. فاسمعوه!