حين أطلق أليعازر بن يهوذا مبادرته الشهيرة لإحياء موات اللغة العبرية، التي تعرضت في ماضيها إلى حالة من العزلة والانكفاء، وأخذ على عاتقه هو ومن معه، مراجعة مفردات اللغة العبرية الموجودة بين أيديهم والإضافة إليها، عن طريق الاقتباس والأخذ والاستعارة من لغات شتى، مما ليس موجودا فيها أصلا، وأضفوا عليها الصبغة العبرية، وكان ذلك بهدف التغلب على قصور لغتهم القديمة وفقرها من جوانب النحو والصرف والاشتقاق، وعجزها عن التعبير عن مقتضيات العصر المتجدد وحاجات الإنسان اليومية.

واليوم وبعدما بعث الكيان الصهيوني لغته من موتها الطويل، وجعل منها إحدى اللغات المعترف بها في المحافل الدولية، بعد أن كانت حكرا على الكهان والحاخامات، واستطاع مع تكونه من شتات متعدد الأعراق واللغات واللهجات أن يجمع ذاته على لغة قومية واحدة، ويجبر الجميع على تعلمها، ويفرضها لغة للتدريس في مختلف مراحل التعليم والبحث والتأليف والنشر، فضلا عن كونها هي اللغة التي يتم من خلالها التعليم في الكليات الطبية، وقد تم ذلك في فترة قياسية نوعا ما، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه اللغة كانت لغة ميتة في يوم ما، ولكن هذا لم يمنعهم من أن ينفخوا فيها الروح من جديد ويجعلوا منها لغة كل المعارف ومنها الطب.

وفي العالم العربي تعد الجامعات السورية وبالذات جامعة دمشق صاحبة الريادة في مجال تعريب دراسة الطب، وهي تجربة ناجحة وطموحة وتعكس وجود رؤية ورسالة تجاه اللغة العربية، فقد بدأت جامعة دمشق تدريس الطب منذ عام 1919، واستمرت في تدريس الطب باللغة العربية بالرغم من محاولات الانتداب الفرنسي عرقلة هذه الخطوة الرائدة وفرض اللغة الفرنسية كبديل.

فهل يوجد فرق في المهنية والكفاءة بين الطبيب السوري وبين الطبيب السوداني أو الطبيب المصري أو غيرهما من خريجي الكليات التي لا زالت تدرس طلابها باللغات الأجنبية؟ مع أن مصر كانت تدرس الطب باللغة العربية لفترة تقارب 60 سنة ولكن بعد أن ابتليت مصر بالاستعمار تحول تعليم الطب من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية.

وفي هذا الشأن يقول زهير السباعي أستاذ طب الأسرة والمجتمع بجامعة الملك فيصل وعضو مجلس الشورى في كتابه (تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية): «وقد يظن البعض أن تعليم الطب باللغة العربية في سورية أدى إلى تدني المستوى (وهم لا يقولون هذا عن إسرائيل التي تعلم الطب بالعبرية)، ولكي نحقق في الأمر بحثنا عن نتائج الأطباء السوريين في امتحان ECFMG (امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب) وهو امتحان تعقده الولايات المتحدة الأميركية عدة مرات في كل عام، ويتقدم إليه في كل مرة نحو عشرة آلاف طبيب من مختلف أنحاء العالم، ومن يتجاوزه يحق له العمل أو الدراسة الطبية العليا في الولايات المتحدة الأميركية. ومن هذا الاختبار يتضح لنا أن الأطباء السوريين لا يقل مستواهم في امتحان ECFMG عن مستوى زملائهم الأطباء من مختلف أنحاء العالم.

وننبه القارئ إلى أن امتحان ECFMG يعقد باللغة الإنجليزية، أي أن تعلم الطب باللغة العربية لم يكن عائقا أمام الأطباء السوريين يحول دون أدائهم للامتحان واجتيازهم له بنجاح».

تخرج من كلية الطب في جامعة دمشق خاصة وباقي الجامعات السورية عامة آلاف الأطباء الذين يعملون داخل وخارج سورية ولا تنقصهم الكفاءة والمهنية، ومنهم عدد كبير أتم دراسته العليا في الجامعات الغربية بلغات تلك البلدان دون عناء، ولكن العربية تظل منطلقهم الأساسي في التفكير والتعبير.

لا شك أن اعتماد اللغة العربية في الكليات الطبية يعد ضرورة ثقافية وتربوية، ونستطيع القول بأن هذه الخطوة تمثل تصحيح مسار، فالجامعة التي تعتمد لغة أجنبية وتتكاسل في اعتماد لغتها القومية مع ما يترتب على ذلك من عمليات ترجمة واسعة النطاق هي جامعة تسير في الطريق الخطأ.

واليابان لم تتطور بهذا الشكل إلا بعدما اعتمدت لغتها الأم منذ بداية انفتاحها على العالم وجعلت منها لغة التعليم في كل المراحل والتخصصات، وهذا تزامن مع تأسيس مؤسسات للترجمة في كل المجالات، وبذلك تفوقت على الهند التي سبقتها في الانفتاح على الغرب.

إن تعريب تعليم الطب أصبح ضرورة تربوية ومطلبا حضاريا لتكون العربية هي لغة العلم في هذا العصر، وتصحيحا لحالة شاذة نشأت في ظروف قاهرة، كي نتغلب على حالة الهزيمة النفسية التي نتعرض لها وتعود لنا الثقة المفقودة.