حملت هم ضيق المساحة قبل أن أكتب هذا الـ"بروفايل"، لأنني ـ هذه المرة ـ أكتب عمن تتلمذت عليه مرات ومرات، وما زلت؛ فهو أستاذي في الجامعة، وقد تلقيت منه ثماني ساعات جامعية هي الباقية في رصيد الذاكرة، والضاربة في عمق الممارسة العلمية حتى كتابة هذه السطور، وهو أستاذي من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تتقاطع مع اهتماماتي العلمية في كل طريق أطرقها، إلى الحد الذي يجعلني أقول جازما: إن كل الباحثين في أدب جنوبي البلاد السعودية عيال وعالة على الدكتور أبو داهش، الذي كان أول السائرين في طريق لم يطرقه غيره، ليهتدي بعده العشرات إلى المكنون من أدب هذه الجهات، والمختفي من مظاهر حياتها العلمية والفكرية في فترات توهمها التاريخ غيابا.

لا يقف القول عن "أبو داهش" عند حدود جهوده العلمية وإضافاته الأهم إلى مكتبة الأدب السعودي، وإنما يتجاوزه إلى تعاملاته وأخلاقه؛ فإذا أراد أحدنا استحضار سمات العلماء، ورؤية وقارهم، والتعرف على خصالهم التي قرأنا عنها في كتب التراث العربي، فما عليه سوى التأمل في صفات الدكتور عبدالله أبو داهش، وفي نتاجه، وفي ممارساته ومبادراته التي تنبع من خدمة العلم، لتصب في خدمة العلم، ليصدق عليه ما مدحه به الشاعر المصري مبروك عطية، في إحدى مناسبات تكريمه:

أوليس من دهش القلوب بعلمه

وبنبله والخير منه عطاء

وقف الحياة على عزيز تراثنا

فغموضه من جهده إجلاء

من لا يعرف "أبو داهش" معرفة شخصية، فإنه يعرفه أيضا معرفة شخصية، من خلال نتاجه، ولغته العلمية التي ليست إلا له؛ ذلك أنها لا تشبه غيرها من لغات العرض العلمي، ما يعني أنه اختط طريقه وطريقته حتى في الأسلوب، ومن الذين عبروا عن معرفتهم بأبي داهش على الرغم من عدم معرفتهم به الصديق أحمد عائل فقيه، حين قال عنه في إحدى مقالة عنوانها: "د. أبو داهش.. التاريخ الذي يضيء": "أبو داهش تحية خالصة لك من شخص لا يعرفك غير أنه يعرفك، لا يعرفك شخصا ماثلا بشحمه ولحمه، غير أنه يعرفك بعلمك ومعرفتك وصمتك المدوي الجميل".

المتأمل في تعرجات حياة "أبو داهش" المولود سنة 1370، يلحظ أنه أنموذج حي للعصاميين الحقيقيين، فابن قرية الصفحة بتنومة بني شهر، بدأ حياته جنديا في الأمن العام، كأقرانه الذين كانت الجندية سبيلهم إلى الحياة، في حال الهجرة من مساقط الرؤوس، إلى مناطق استدرار الرزق، بيد أن همته أكبر من أن يكون جنديا يعود إلى أهله الجبليين بالهدايا و"الدراهم" في كل إجازة، ليبقى جنديا، ثم يعود إلى جباله ـ بعد حين من العمر ـ فيبتني بيتا، ويعيد ترميم ما أفسده الهجر من مزارعه.

لم تكن همة "أبو داهش" العالية لتقف عند طموح جمعي يستطيع تحقيقه كل من "تعسكر"، أو "كتب في العسكرية" ذات "كتْبيّة"، وإنما تتجاوزه إلى دخول التاريخ، وإلى التأثير، وإلى ما يمكث في المجلدات لينفع الناس، فحصل على البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة الرياض سنة 1397، ثم الماجستير من الجامعة نفسها سنة 1401، ثم الدكتوراه من جامعة الإمام سنة 1404، ليتصل قلق الهمة، وتتواصل الأبحاث الجادة، فيحصل على درجة "أستاذ" سنة 1413، ليكون أول سعودي يحصل عليها في كلية اللغة العربية بأبها، وخلال فترة زمنية لا تتجاوز 9 سنوات، كان في أثنائها مثالا للقادرين على الجمع بين العمل العام بعطاء، والعطاء العلمي بتميز، إذ كان عضوا في عدد كبير من اللجان الأكاديمية والثقافية والعلمية، وحصل على ما يناظرها من الجوائز التي يشرف تاريخها باسمه، كما يشرف الباحثون الشباب ـ الآن ـ بالفوز بجائزته العلمية السنوية التي يصرف عليها من ماله الخاص خدمة للعلم، وهو خادم العلم عبر كل الوسائل، ومن الاتجاهات كلها.

رصد حياته جلها، في كتاب: "حياة في الحياة"، وهو كتاب ضخم يقع في 1504 صفحات، وفيه أتى على رحلته الحياتية بدءا من ولادته ونشأته بمدينة تنومة، ثم دراسته من الابتدائية حتى الدكتوراه، وما تلاها من ترقيات علمية، مرورا بتنقلاته من أبها إلى الرياض ثم العودة مرة أخرى إلى أبها، ثم العودة إلى الرياض باحثا في عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام، وقد زوده بعدد كبير من الوثائق والمراسلات والصور، مما يجعل قيمته تأتي مما يحويه من معلومات تؤرخ للحياة العلمية في المملكة، وهو ما أكد "أبو داهش" على اهتمامه به، حين أشار إلى أن كتابه لا يقدم للقارئ حياة كاتبه وحسب، وإنما يهبه صورة لعصره، وقد كانت روح الباحث غالبة على روح الكاتب، حيث حرص على الإحالات إلى المصادر والمراجع، مؤكدا أنها مما يعزز الثقة فيما يكتبه، وذلك بخلاف النماذج المناظرة من السير الذاتية. يقول: "وكل ذلك من أجل دفع الحرج عن الباحث، لكي لا يظن ظان نحوه بالتزود في القول، أو عدم التدقيق فيه، بل يجب العلم بصحة ما قيل، والثقة به"، لكن هذا التوثيق لم يجعل السرد الحياتي يخفت خفوتا دائما، فهو يظهر حين يكون الاعتماد على الذاكرة في ذكر أحداث النشأة الأولى، وما رافقها من النصب والمعاناة.

عبدالله بن محمد بن حسن أبو داهش، علامة فارقة في البحث الأدبي السعودي، وشخصية باقية في أحداق الباحثين ما بقيت المعرفة، وما بقي الإنجاز الحقيقي.