ترحل بعض القامات والهامات دون ضجيج، وبصمت مثلما عملت بصمت، فلا تأخذ حقها من التأبين وذكر المحاسن وتبيان سيرتها ومسيرتها وعطائها لخدمة دينها ووطنها، مثلما لم تأخذ ذلك الحق والتقدير والتكريم في حياتها. فقدنا قبل أقل من 3 أسابيع قامة إعلامية، ورمزاً من رموز الإعلام السعودي وأحد أبرز رموز الإذاعة وعلاماتها المميزة، ذلكم هو الدكتور زهير الأيوبي، الذي لقي وجه ربه ورحل بصمت، مخلفاً وراءه إرثاً إعلامياً كبيراً، خاصة ما يتعلق بإذاعة المملكة، حيث واكب تأسيس إذاعة الرياض وكانت له اليد الطولى في تطويرها وتأدية رسالتها وتبني كوادرها يعضده نخبة من الإذاعيين السعوديين والعرب وبدعم من أول وزير إعلام في المملكة الأستاذ جميل الحجيلان، ولمن لا يعرف التفاصيل عن فقيد الإذاعة والإعلام د. زهير الأيوبي فهو محمد زهير عبدالوهاب الأيوبي المولود في دمشق سنة 1939 وكانت بداياته الإذاعية في سورية، ثم قدم إلى المملكة عام 1964 وعمل فترة قصيرة في إذاعة جدة، ثم انتقل بتوجيه من الوزير الحجيلان إلى الرياض ليتولى مع كوكبة من الإذاعيين افتتاح إذاعة الرياض في شهر رمضان 1384 أي قبل 50 عاما، وكانت في مبنى متواضع في شارع الفرزدق بحي الملز، وعلى الرغم من الإمكانيات المحدودة فنياً وإدارياً فقد استطاع الأيوبي وزملاؤه النهوض بالإذاعة وتطويرها بالتعاون مع إذاعة جدة التي سبقتها بسنوات في التأسيس حيث يتم تبادل البرامج والمذيعين.

وهكذا قام المرحوم بدور طليعي في بدايات الإعلام المسموع في المملكة، وقد أسهم -رحمه الله- في تبني عدد كبير من الكوادر السعودية من مذيعين ومخرجين وفنيين، وقد سعدت بتوجيهاته وكنت طالباً في كلية اللغة العربية عندما التحقت بالإذاعة مذيعاً متعاوناً فكان نعم الموجه للشباب الذين التحقوا بالإذاعة، حيث كان حريصاً على استقطاب الكوادر الجامعية خاصة خريجي كلية اللغة العربية، وقد سعى مدعوماً من الوزير إلى استحداث وظائف مذيعين وفنيين، لكون الإذاعة الوليدة بحاجة إلى كوادر إذاعية متنوعة للنهوض بمسؤولياتها وبرامجها واستديوهاتها ومرسلاتها. كان -رحمه الله- دقيقاً جداً في عمله ومع ذلك لم يشغله العمل الإداري عن اهتماماته البرامجية فقدم برنامجاً في التلفزيون هو برنامج "مجالس الإيمان" الذي كان يطرح الكثير من القضايا الإسلامية ويستضيف النخبة من العلماء والمفكرين، وفاز البرنامج بجائزة أفضل البرامج الدينية في مهرجان أقيم في الكويت في الثمانينات الميلادية، كما قدم برنامج "في ظلال القرآن"، هذا في مجال عمله، أما في مجال تعامله الشخصي فكان الرجل -غفر الله له- قدوة في التعامل، كريم الأخلاق، طيب المعشر، حميد الخصال، لا تخرج منه كلمة نابية، كان مثقفاً ثقافة عربية إسلامية، منافحاً عن قضايا أمته، وبعد أن ترجل من العمل الرسمي، وأعطى زهرة شبابه لإعلام وطنه الرسمي وأسهم بتطوره وخاصة الإذاعة التي أصبحت منارة إعلامية وثقافية تنويرية ذات رسالة سامية وهي لسان الوطن ونبض المواطن؛ أقول بعد أن انتهى الراحل من مهامه الرسمية استفادت من خدماته وخبراته المكتنزة والمتراكمة بعض المؤسسات الإعلامية، فعمل في تلفزيون الشارقة حيث قدم بعض البرامج، ثم رأس تحرير جريدة المسلمون التي كانت تصدر عن الشركة السعودية للأبحاث والنشر، وقد أسهم في توثيق تأسيس إذاعة الرياض، وكتب بمداد الوفاء عدة مقالات في صحيفة الجزيرة وفي مناسبات مختلفة عمن أسهموا في بناء هذا الصرح الإعلامي الكبير، وتعد تلك المقالات وثائق مهمة لمن يكتب تاريخ تأسيس الإذاعة، وبعد فهذا الذي قدمه زهير الأيوبي -رحمه الله- من عطاء وإخلاص وتفان. نذر حياته وجهده لخدمة الدين وإعلام الوطن، فما الذي قدمته له الوزارة أو الإذاعة على وجه الخصوص؟

لقد كان حرياً بها أن تكرم هذا الرجل وتقدر عطاءاته، هو والرجال المخلصون الذين عملوا معه أو أكملوا المسيرة من بعده، من كان منهم حياً أو من انتقل إلى جوار ربه، أما وقد رحل إلى جوار ربه فإن من الوفاء تكريمه وتقديره وتوثيق ما عمله، وكنت أعتقد أن الإذاعة التي مر على تأسيسها 50 عاماً بالتمام والكمال خلال شهر رمضان الماضي، ستحتفي أيما احتفاء بهذه المناسبة الكبرى وتعد لها إعداداً يليق بالمناسبة وأهميتها، وتكرم الرواد الذين أسسوها وبنوها ورعوها، وتوثق ما كتبه من عايش مرحلة التأسيس لأنهم شهود عيان تركوا بصماتهم في مراحل إنشاء الإذاعة، وبهذه المناسبة -ذكرى 50 عاماً على تأسيس الإذاعة- اتصلت على أحد الرواد المؤسسين للإذاعة والذي كان وكيلاً مساعداً لها؛ الأستاذ محمد بن عثمان المنصور، كي أعزيه برفيق دربه د. زهير فوجدته متأثراً بفقده وقال إنه هاتفه خلال عيد الفطر المبارك وهنأه بالعيد ولم يلحظ عليه أي اعتلال صحي لكنها إرادة الله وقضاؤه، ثم ذكرني المنصور بمقالة كتبها في صحيفة الجزيرة في أوائل شهر شعبان تحدث فيها عن الأهمية التي يمثلها مرور نصف قرن على تأسيس الإذاعة وقال في تلك المقالة: "يجدر بنا ألا نهمل التاريخ بل الواجب أن نجلو صفحاته الوضاءة وأن نرفع عنه ستار النسيان، يجدر بنا أن نحتفل بهذه المناسبة احتفالاً لائقاً وأن نحيي ذكرى الرواد الذين ما زالت أسماؤهم محفورة في الذاكرة من مذيعين ومخرجين وإداريين وفنيين، ومحرري أخبار ومعدي برامج ومتعاونين وسواهم".

نعم كأنك تحدثهم عن زهير وإخوانه الذين رحلوا -رحمهم الله- ومن بقي منهم متعه الله بالصحة والعافية، وأخيراً أسعدني ما قرأته عن عزم نادي الرياض الأدبي إحياء ندوة عن الذكرى الخمسينية لإذاعة الرياض، فللدكتور عبدالله الحيدري وهو ابن الإذاعة وزملائه بالنادي الشكر والتقدير على هذه المبادرة الطيبة.