جمع يوسف إدريس ببراعته الأدبية العديد من المتناقضات، أدخل العامية في الفصحى، ومزج بين ذوق النخبة والحس الشعبي، وتعرض للجنس دون أن يسقط في الابتذال، وانتزع أشكاله الفنية من براثن الفطرة، إن هذه الدراسة تكشف عن بعض الجوانب الأصيلة عند أديبنا الراحل.

«أتمنى عليه أن يرفق باللغة العربية، ويبسط سلطانها شيئا ما على أشخاصه حين يقص، كما يبسط سلطانها على نفسه، فهو مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية، كما يتحدث بعضهم إلى بعض في واقع الأمر، حين يلتقون ويديرون بينهم ألوان الحوار»...

هذه كلمات طه حسين في مقدمته لمجموعة «جمهورية فرحات» عام 1956. وهي كلمات، أيا كان الرأي فيها، تثير إشكالية اللغة في أدب هذا الكاتب، وهي اللغة الرثة إذا قيست مفرداتها وتراكيبها بلغة طه حسين أو عبد الحليم عبد الله، ولكن جماليات اللغة الفنية تقاس بإيقاعاتها وتشكيلاتها.

أمام يوسف إدريس لم تكن المشكلة غامضة، فالبعض يكتب القصة بين الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن، كنسيج واحد الإيقاع، لا فرق في ذلك بين لغة المقال ولغة القصة للكاتب الواحد، ولا فرق بين لغة المتكلم أو لغة المخاطب، أو لغة الغائب في القصة الواحدة، ولا فرق بين لغة الحلم أو لغة الحوار، أو لغة الوصف في الشخصية الواحدة. إيقاع مشترك يوحده «الأسلوب» في اختيار المفردة وصياغة الفقرة، وفي نسج السرد والحوار، كما لو أن ثمة صوتا واحدا، وقلبا واحدا وجسدا واحدا، وعقلا واحدا وأفكارا واحدة، ومشاعر واحدة توزعت على مجموعة من الأقنعة المختلفة الأشكال والأحجام والأسماء.

وهناك من يميز بين السرد والحوار، بأن يجري الكلام في الأول بالفصحى وفي الثاني بالعامية. ولكن الراوي في الحالين. هو الذي يتكلم بلغته وروحه وانفعالاته، سواء كان المتحاور رجلا أو امرأة، شيخا أو طفلا.

وهناك من كان يلون الفن بألوان الواقع، باستخدام اللهجات المختلفة لأقاليم الوطن المتعددة، فتستحيل اللهجة قناعا أو جزءا من قناع.

ليست هذه أو تلك لغة الكتابة عند يوسف إدريس، والأدق أن يقال إنه ليست هناك «لغة» واحدة في كتابة هذا المبدع، فهو يربط بين الكلام والدلالة، والشخصية والحدث ربطا بنائيا، فاللغة جزء لا يتجزأ من بنية الشخصية، وعنصر من عناصر تكوين الحدث، بحيث إن هذا الكيان اللغوي يستقل عن صاحبه ولا يستحيل قناعا، وإنما مجموعة من الأصوات والعلاقات ومستويات المعنى.

ولم يصل الكاتب إلى هذا «الخلق» دفعة واحدة، بل على مراحل.

وعلى مراحل كان الجسم القصصي يتكامل نموه، الشخصية لها داخل وخارج وظاهر وباطن، ووعي ولاوعي، متعددة الطوابق النفسية، والروحية، متناقضة الفكر والسلوك، قد تشابه الواقع أو تشاكله، ولكنها لا تنسخه ولا تختزله. لم تعد الشخصية هي الشخص، بل ربما كانت الزمان أو المكان أو الموقف. العلاقات بين العناصر المختلفة تتطور ويطور بعضها بعضا، فتختلف مستويات المعنى من دلالة صوتية، إلى دلالة حدثية إلى بقية الدلالات، التي تشكل فيما بينها نظاما دلاليا متكاملا، ولكنه مفتوح الأبواب على احتمالات لا حد لغناها.

لابد أن أي «قارئ مدمن» ليوسف إدريس، قد لاحظ مجموعة من الثوابت وأخرى من المتغيرات في مسيرته الإبداعية.

هناك ثنائي «الجنس والسياسة» بدءا من «أرخص ليالي» «1954» حتى «أبوالرجال» «1987». وبالطبع يضمر ويكبر النسيج الاجتماعي بين مرحلة وأخرى، أو بين قصة وأخرى حسب «الرؤية»، التي يتوخاها هذا النسيج. ولكن القوام الاجتماعي للجنس أو للسياسة، كامن هناك في تضاعيف اللغة ودلالاتها، وفي منحنيات الشخصية وأسلوبها، وفي دهاليز الحدث أو الموقف، وخفاياها الواعية أو المسكوت عنها.

ولم يكتب «الجنس» قبل يوسف إدريس، في القصة المصرية القصيرة، بالمدلول الأعمق من الإثارة، والقابض على لحظات وجودية مترعة باكتشافات خفية، في قاع النفس، سوى محمود البدوي ويحيى حقي. ولكن يوسف إدريس يتميز عن هذين الكبيرين، بأن الجنس قد ارتبط عنده منذ البداية بالسياسة. وأيضا بالمدلول الأعمق من الإثارة، فالسياسة عنده كالجنس تماما ليست حكا للجرح، ولا تهييجا لمسطح الجلد أو العقل، وإنما هي حركة الجذور الغائرة في الأعماق، والممتدة في باطن الأرض أو ما نسميه الانتماء. السياسة كالجنس ليست اختيارا بل غريزة، لا تشترط الوعي وإن كابدت أهوال الاتصال به، السياسة في الجنس عند يوسف إدريس، ليست «رسالة» أو «دورا»، إنها تحقيق الذات، كل ذات، والجنس في السياسة ليس «أخلاقا»، إنه الحوار مع الوجود.

قد يتضح الفقر والصراع الاجتماعي في المرحلة الأولى، ولكنه لا يغيب في بقية المراحل، وإنما يندغم في بقية الخيوط، التي يكشف دورانها عن العمق والمدى الذي بلغته المأساة. وهو الدوران الذي يحتاج لأدوات تتجدد بين حين وآخر. أين يبدأ الجنس وتنتهي السياسة في «أرخص ليالي»؟ نلتقط الجواب ونمضي إلى «النداهة» و «مسحوق الهمس» وإلى «حادثة شرف» و «الحرام» «العيب» حتى نصل إلى أحدث القصص «أبو الرجال». هل لاحظنا كيف تغيرت الأدوات من قصة إلى الرواية، ومن الريف فى المدينة، ومن الواقع إلى الأسطورة المتوجة بالرموز؟

ومع ذلك، فالجنس والسياسة رابضان يتفاعلان، يتبادلان يتناميان يشتبكان وينفصلان، ولكنهما أبدا هناك كامنان أو ظاهران.

للشخصية كل ملامحنا ولكنها بلا نظير بيننا. وللحدث كل معالم «الحياة من حولنا» ولكنه لم يقع في دنيانا قط. هذا سر الخلق الذي يفكك العالم إلى عناصره الأولية ويعيد تركيبه فيولد فريدا لا يضاهى.

استطاع إدريس أن يجمع دائرة القراءة الشعبية ودائرة النخبة. وليس هناك من سبقه إلى هذا الإنجاز سوى نجيب محفوظ. الآخرون كانوا ولا يزالون، إما «شعبيين» وإما «نخبويين». أما الجمع بين الدائرتين فهو ظاهرة نادرة. حتى توفيق الحكيم كان حجمه الإعلامي أكبر كثيرا من حجم القراءة، فقد ظل توزيع مؤلفاته حتى وفاته في نطاق المستوى المتوسط.

كيف استطاع يوسف إدريس أن يصل إلى «الشعبية» دون ابتذال، وأن يصل إلى «المثقفين» دون انعزال؟

إنه السؤال الاجتماعي- الثقافي، الذي يتعلق باللحظتين الحاسمتين في علم الجمال: لحظة الخلق ولحظة التذوق.

في الخلق لا يبتعد يوسف إدريس عن مجاله الحيوي، وهو المواطن العادي الذي يشكل الرقعة الأوسع في النسيج الاجتماعي، والحادثة العادية التي يتكون منها الثوب المفصل على قد الجسد الاجتماعي، والسلوك الشائع الذي يضبط حركة القوام الاجتماعي، والوجدان القادر على الشعور بخلجات النفس الجماعية، والتفكير العفوي الذي يتنفسه العقل العام بالفطرة.

1991*

* ناقد وأكاديمي مصري " 1935 - 1998 "