سيغضب البعض، وينتفض البعض الآخر... ولكن الدين ليس سياسة.

ما الغرض من الدين؟ هل هو إقامة الدول وشن الحروب أم هو الهداية والنجاة في الآخرة؟ قبل عقود من الزمن عندما رفع حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين شعار «الإسلام دين ودولة» كان من الواضح أنه خرج على إجماع علماء السنة، فالأمران أساسيان: أن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد بل هي من الفروع والظنيات كما كان يقول الإمام الغزالي، ومن راجع كتاب «الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية» يظهر له خطأ تسييس الدين وتحويله إلى دعوة إيديولوجية.

دعونا نفكك الحال ونسأل: ما هي الإمامة بالإسلام؟ هل هي سياسة؟

ابن خلدون لخص التعريفات الفقهية للإمامة بقوله: «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به».

سطور ابن خلدون واضحة وتميز الخلافة عن الدولة (الملك الطبيعي أو الملك السياسي حسب عباراته) بكونها داخلة في باب العبادات والالتزامات الروحية لا التدبير السياسي. ومن هنا اعتبر المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي أن الخلافة ظلت بالنسبة للفقهاء حالة مثالية طوبائية لا تتحقق في عالم البشر إلا بمعجزة إلهية، في حين أن الحالة الطبيعية هي قيام نظام سياسي يكفل السلم الأهلي ومصالح الناس، أما الدين فلا شأن له بالسياسة بل هو من مشاغل أهل العلم وشرائعه مبثوثة في الخلق.

ويرى العروي أن ما يميز الدين الإسلامي هو غياب فكرة قابلية تجسيد الدين في نظام سياسي، ولذلك كانت فكرة الحاكمية التي طرحها المودودي وسيد قطب غريبة تماما على الفقه الإسلامي، لأن حاكمية الله هي تدبيره للكون وتحكمه فيه لا بناء نظام سياسي يكرسه في الواقع.

الغريب اليوم، أن علماء الدين السنة وأولهم الإمام أحمد بن حنبل بنوا مواقفهم من مسألة الدولة على منطلقين هما: الأول هو طاعة الإمام وعدم منازعته الأمر (أي الدخول في الشرعية القائمة) والثاني هو ترك أمور الدين لأهل العلم والشرع، وبالتالي لا دخل لها بالسياسة. ومع ذلك ظهرت أصوات متمردة تستخدم الدين ذريعة لتدمير الدول وإشعال الفتن باسم الدعوة الدينية، مع أن هذه الأطروحة تتنافى كليا مع الأقوال المعتبرة في التراث الإسلامي.

السؤال الأهم هنا، والذي يفتح لنا أبوابا أكبر للبحث والتفكيك هو:

هل كانت أطروحة تسييس الإسلام في أصلها أطروحة استشراقية من تأثير الكتاب الأوربيين المعادين للإسلام الذين يرون أنه دين سياسي لا مكان فيه للحرية والديمقراطية على عكس المسيحية التي هي دين العلمانية والفصل بين الدين والسياسة؟

نعم، وهنالك مبررات كثيرة للإجابة بنعم على هذا السؤال، فلقد تزامنت آراء البنا مع الموجة الاستشراقية الكبرى المناوئة للإسلام. وإذا كان بعض الحركيين الإسلاميين يفتخرون بأن الإسلام لا يقبل العلمانية على عكس المسيحية، فإنهم في الحقيقة يرددون الأطروحة الاستشراقية نفسها وإن توهموا فيها الدفاع عن الخصوصية الإسلامية.

لقد صدق عالم الأنثربولوجيا السعودي/ الأمريكي طلال أسد بقوله «إن الإسلام ذهب أبعد من المسيحية في فصله بين الدين والدولة لأنه اعتبر أن تسييس الدين هو تلاعب بقدسيته وانتهاك لعصمته، في حين أن المسيحية حاولت بناء مدينة الأرض على غرار مدينة الرب في السماء».