بعد الثورة على حكم الإخوان، أصدر الإخوان بيان «نداء الكنانة»، والذي وقع عليه علماؤهم ومفكروهم في العالم الإسلامي، وأجازوا فيه قتل كل من تعاون مع هذا الانقلاب ليس من العسكريين وحسب بل من المفتين والإعلاميين والسياسيين، وأكدوا فيه أنَّ الحكام والقضاة والضباط والجنود والمفتين والإعلاميين والسياسيين، وكل من يَثْبُتُ يقينًا اشتراكُهم ولو بالتحريض في انتهاك الأعراض وسفك الدماء البريئة وإزهاق الأرواح بغير حق... حكمهم في الشرع أنهم قتَلةٌ، تسري عليهم أحكام القاتل، ويجب القصاص منهم بضوابطه الشرعية، والله تعالى يقول: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وهو بيانٌ وقع عليه أكثر من مائة وخمسين من علماء الإخوان والمتعاطفين معهم وعدد من المؤسسات العلمية المحسوبة عليهم، وعند صدوره رحَّبت به الجماعة، كما رحبت به مواقع حزب الحرية والعدالة.

وهذه الفقرة من البيان وحدها تُعد جريمةً عظيمة؛ فهي تدعو إلى استباحة قتل الحكام في مصر وفي البلاد التي تعاونت مع الحكم الجديد في مصر، وكذلك القضاة، وأكثر من خمسة ملايين من أفراد الجيش بجميع رُتبهم، وقريباً منهم من العسكريين في القطاعات الأُخرى، وكذلك قتل كل السياسيين والإعلاميين والمفتين الذين أيَّدوا الثورة أو الانقلاب؛ وأبانت هذه الفقرة خواء هؤلاء المنتسبين للعلم من الأدلة الشرعية على هذا الإفساد، وذلك باستدلالهم بقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] دليل عليهم، فبأي دليل يحكمون بالقتل على الحاكم المتغلب وقد وجبت له أحكام الولاية؟ وهذا هو اتفاق العلماء من أهل الحديث وأهل الكلام منذ مئات السنين سواء أكان مُحقاً في تغلبه أم غير محق، وذلك صيانة لجماعة الأمة ووحدتها ودمائها وأعراضها من توالي الفتن، وبأي حق شرعي يحكمون بالقتل على الملايين من العسكريين والأكثرية الكاثرة منهم من الذين لم يشاركوا في هذا الانقلاب؟ وأي فساد أعظم من الحكم بالقتل على كل من كان له رأي يوافق هذا الانقلاب أو الثورة من إعلاميين وسياسيين ومفتين؟

وإن زعموا أن تقييدهم في هذه الفقرة بقولهم «من ثَبَت قطعاً» عاصم لهم فليس بصحيح، لأنهم أعلنوا هذه الفتوى على عموم الناس، وأجازوا لعموم الناس القيام بهذا العمل الإفسادي وهو القتل، فمَن مِن عموم الناس لديه القدرة على التمييز بين القطع والظن والوهم ؟!

والحق أنهم أرادوا بهذه الفتوى غير الشرعية الإفساد في الأرض وشيوع الاقتتال بين الناس، فهذا يقتل شرطياً لأنه يراه مع الانقلاب تحقيقا للفتوى الخبيثة، وآخر يقتل صحفياً لأنه أيد الانقلاب، وثالث يقتل مفتياً، ثم يأتي أقارب هؤلاء ليثأروا من القاتل، فلا تستقر الأمور ولا تنضبط، ولا تزداد الدماء والأموال والأعراض إلا هدراً.

ثُمَّ أليس الإخوان هم من ينتقدون الأنظمة لاستباحتها السجن والقتل بزعمهم دون محاكمة؟ كيف يصح أن يأمروا باستحلال دماء الملايين من العسكريين والمفتين والسياسيين دون محاكمة، أم أنه يحل لهم ما لا يحل لغيرهم؟!

ومن نعمة الله تعالى أن الشعوب العربية والشعب المصري بخاصة كانوا أفقه وأعرف بالحق وأقرب للفطرة من أدعياء العلم هؤلاء، ولولا ذلك لكانت مصر اليوم مقبرة لأهلها، كما هي ليبيا وسورية واليمن والعراق.

وقد يقول محسنٌ للظن بهم: إنهم بهذه الفتوى لم يخاطبوا الناس على الإطلاق، ولم يريدوا القتل على الإطلاق، بل قيدوه بقولهم في البيان: «بضوابطه الشرعية».

والجواب: أنَّ أول الضوابط الشرعية هو كون القصاص في كل المذاهب الأربعة وعند جميع المجتهدين لا يأخذه إلا السلطان أو من يُنيبه، ولم يقل أحد من أهل العلم بجواز أن يأخذ الناس القصاص بأيديهم حتى لو كانوا أولياء دم المقتول المباشرين، فكيف يعطى الحق لكل من أراد الاقتصاص ممن شاء؟! وأين الضوابط الشرعية والحكم كله ليس شرعياً، بل حكم خارجي لا يرضاه عالم يحكم بعلمه، ولا عاقل يركن إلى حكمته وتبصره.

القرضاوي يخالف مهمَّة العلماء

ثُمَّ ها هو شيخهم يوسف القرضاوي يؤكد هذا الإطلاق ويأمر عموم الناس بممارسة القتل غير عابئ بما سيصيب الخلق جراء ما يفتي به من المفاسد، وذلك حين أجاز القتل على عواهنه وكيف ما اتفق في الثورة السورية، قال في قناة الجزيرة بعد سؤال المذيع له عن العسكريين الذين ما زالوا واقفين مع النظام السوري ويوجد منهم من يريد الانشقاق ولا يستطيع، فأجاب: «الذين يعملون مع السلطة يجب أن نقاتلهم جميعاً، عسكريين مدنيين، علماء، جاهلين، إن لم يكونوا على هذه السلطة الظالمة المتجبرة في الأرض التي قتلت الناس بغير حق هو ظالم مثلُها، فيأخذ حكمها، فكل من يقاتل فعليه أن يقاتل هؤلاء، إذا كان فيهم واحد مظلوم فالله سبحانه وتعالى سيدافع عنه، وسيأخذ حقه {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]».

فقد جعل لكل من أراد القتال أن يقتل كيف ما اتفق، عالما أو جاهلاً، عسكريا أو مدنياً، ظالماً أم مظلوماً، ولم يقدم كلمة واحدة عن التحري ووجوبه لاسيما في الدماء، ولم يتحدث عن اشتراط الراية في القتال، خلاصة رأيه لمن شاء قتل من يرى أنه اتصف بمشاركة النظام دون تمييز، وهذا ما وقع، وهو ما أوصل سورية لما هي فيه اليوم؛ مناط الحكم بالقتل عنده هو العمل مع السلطة؛ وأي دعوة للفساد في الأرض واستباحة الدماء أكبر وأعظم من هذه؟ والأعجب منها: أن القرضاوي يُدِين ما تفعله داعش، فأي فرق بين ما يفتي به وما تعمله داعش، فمناط الحكم بالقتل عند داعش هو التعاون مع الأنظمة، وهو نفس المناط الذي ذكره القرضاوي.

ويخالف القرضاوي مهمَّة العلماء مع الناس وهي المحافظة على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم فيحرض الشباب والشيوخ والبنات والأمهات على الخروج في مواجهة الجيش المصري والآلة العسكرية، يقول: «نحن ندعو المصريين جميعا أن يخرجوا، اخرجوا من بيوتكم أيها المصريون، لا تتركوا الأمر يزداد، لا يستطيع هؤلاء أن يفعلوا معكم شيئا، اخرجوا من بيوتكم في صلاة العصر، في صلاة المغرب، كلكم اخرجوا، الرجل يخرج، وامرأته تخرج، وبناتها تخرج، وأولادها يخرجون، حتى الأطفال المميزون: اخرجوا، اخرجوا من بيوتكم، هذا فرض عين على المصريين...».

التكفير المطلق للأمة

وقد أدرك المصريون بِفِطَرِهم وبأهل العلم الصادقين عندهم بأنهم سواء أرضوا بتولي الجيش السلطة أم سخطوه، فلا يحل لهم مصادمة السلطة لما في ذلك من تسليط الناس بعضهم على بعض، وتسليط الجيوش والحكام على الناس مما يفضي إلى الشر العظيم؛ كما هو الحال في سورية التي أصبح الناس يرون أن حكم أسوأ مستبد وظالم لها خير مما هي عليه من حال، وكذلك الأمر في سواها من الدول.

ويقول الإعلامي محمد ناصر في برنامجه الذي يُبثُّ من تركيا على الهواء: «اقتلوا ضباطهم، أنا بقول على الهوا: اقتلوا الضباط، أنا عايز أقول لكل زوجة ضابط زوجك هيُقتل، النهار ده لا؛ بكرة نعم، سيقتل يقتل»، وهذا الخطاب وإن كان من إعلامي وليس من عالم فإنه يوافق فتاوى العلماء التي نقلنا وفتوى القرضاوي وغيرهم، لكن الإضافة فيه أن الأمر انتقل إلى التحريض الإعلامي الصريح بقتل الضباط، وإدخال الشباب في مواجهات مع سلطات هم أضعف منها بعشرات المراحل، ولن يصلوا منها إلا إلى تحطيم مستقبلهم وإيغالهم في الدماء وجر البلاد إلى دوامة الصراع.

وبلغ الأمر ببعض مفتيهم وهو شرف عبدالغفار -أحد قيادات الإخوان- في لقاء طويل إلى أن يدعو إلى تفجير محطات الكهرباء، ويرى أن ذلك درجة من السلمية!

والعجيب أن عنوان اللقاء كان: «سلمية الإخوان وطمع الانقلاب في جر البلاد للعنف» فأي سلمية لمن يدعون للقتل وتفجير محطات الكهرباء، ومن هو الذي يجر البلاد إلى العنف حينئذٍ؟!

وهذه الدعوات إلى الإفساد في الأرض بزعم الإصلاح لا نعرف أن أحداً من علماء الإخوان انتقدها، أو رد عليها أو تبرأ منها، وإذا قامت هيئة كبار العلماء بالحكم على الجماعة بكونها إرهابية بناء عليها فلها الحق في ذلك، فتحذير الأمة من مصادر هذه الأفكار التي لا تفضي إلا إلى الخراب واجب، وقد علمتنا التجارب أن هذه الأفكار حيثما حلت حققت في الأرض فساداً عظيما.

وحين نُرَجع أصل تكوين هذه الأفكار نجدها ناشئة عن التكفير المطلق للأمة الإسلامية والحكم عليها بالردة؛ وهذا الرأي التكفيري وإن كان لا يتبنَّاه كل الإخوان إلا أنه أصبح ذا تأثير عظيم حتى على من لا يتبنونه، وقد كان أعظم من تبناه من قادتهم الفكريين سيد قطب، وكان كما يؤكد ذلك علي عشماوي يوجه من خلاله التنظيم الخاص في آخر تكوين له، وله في ذلك كلام كثير مشهور اقتصر منه على النص التالي: «لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله، فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: «لا إله إلا الله» دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية الحاكمية التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب. فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله، فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية، ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء...البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: «لا إله إلا الله» بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعد ما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله! فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلاً أمام هذه الآيات البينات»، فالمسلمون ليسوا فقط واقعين في أخطاء وانحرافات خطيرة؛ بل هم بأعيانهم مرتدون عن الإسلام؛ والذي يقع في ذهن الشاب وهو يرى مُنَظِّراً كسيد قطب يقول ذلك: أن المجتمع تقع عليه أحكام المرتدين من المفارقة والمقاتلة، وهو ما صرح به قُطب وغيره، وانبثقت بسببه جماعات عدة منها تحكم بقتال الناس وقتلهم وآخرهم القاعدة وداعش ومن نحا نحوهما.

تأييد القتل والإرهاب والفوضى

ويقول فتحي يكن وهو من منظري الإخوان في لبنان: «واليوم يشهد العالم أجمع ردة عن الإيمان بالله وكفرًا جماعيَّا وعالميا لم يعرف لهما مثيل من قبل، ولقد ساعد على هذا عوامل كثيرة منها: انعدام وجود واقع إسلامي صحيح ولو في قطر واحد من الأقطار يطبق في الحكم الإسلامي، وتسوده شريعة لا إله إلا الله مما يمكن أن يعتبر نموذجا عمليا للمنهج الإلهي الذي يقوم أساسا على الإيمان بالله».

والعجيب أن هذا الذي ينعى على بلاد المسلمين عدم وجود واقع إسلامي صحيح كان أبرز مؤيدي حسن نصر إيران زعيم الحزب الصفوي الإيراني، ومن أكبر داعمي العماد ميشال عون، وأحد من رافق الحزب في اجتياح بيروت، فلا ندري أي واقع إسلامي وجد عندهم.

والنقول في تأييد القتل والإرهاب والفوضى والتكفير كثيرة اقتصرت منها على ما مضى ليدل على ما بقي، ويتضح منها صحة ما ذهب إليه بيان هيئة كبار العلماء من كونها إرهابية.

وسوف أستكمل الحديث عن البيان في حلقة أخرى.

الحلقة الأولى

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

الحلقة الخامسة