يتناول مارتن فرامبتن مؤلف كتاب «الإخوان المسلمون والغرب / تاريخ العداوة والارتباط»، والذي صدرت نسخته العربية عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في يوليو 2020، حرب قناة السويس 1950 ـ 1952 وما أحدثته من أثر على الإخوان المسلمين، كما يصل في تناوله لأوضاع الجماعة وعلاقاتها مع الغرب إلى 1952 والصراع الذي بدأ متأخراً بينها وبين جمال عبدالناصر والذي أفضى إلى حلها وتحجيمها.

استعادت جماعة الإخوان مع نهاية 1949 وبدايات 1950 كثيرا من المكاسب التي فقدتها على الأرض نتيجة لقرار حلها، وبدأت شن هجمات على القوات البريطانية من نهاية 1951 إلى بداية 1952، واستوعبت خسارة مؤسسها، وأعادت تنظيم نفسها خاصة في مصر، وظهرت كقوة ثانية في مصر إلى جانب حزب الوفد الذي اتسم في تلك الفترة بالفساد والتحلل.

مارس الإخوان ضغوطا كبيرة أسفرت في مايو 1951عن إلغاء الأحكام العرفية، ورفع الحظر عن جماعة الإخوان.

الانزلاق نحو الصراع

كانت الأوضاع في مصر توحي في نهاية 1951 بقرب «انفجار الموقف"، وتنبأ بموجة جديدة من العنف السياسي ضد الإنجليز، والحكم الملكي، و«النظام القائم» برمته، وتزامن ذلك مع الزيادة المطردة في عدد أعضاء الجماعة التي رغبت في معرفة وجهة نظر الحكومة قبل أن تشن «حرب عصابات» ضد «الإنجليز» وبحلول سبتمبر 1951، كانت الجماعة تدعو علناً للجهاد.

في 8 أكتوبر 1951، أعلن النحاس عن إلغاء مصري أحادي الجانب لكل من معاهدة الصداقة المصرية البريطانية 1936، واتفاقيتي السودان 1899.

حرب منطقة القناة

مهد إلغاء المعاهدة الطريق لما سمي بحرب منطقة القناة، حيث هوجمت المصالح الإنجليزية، وطالب الإخوان الحكومة المصرية بإعلان

حالة الحرب بين مصر وبريطانيا، وطالبت بالسماح لأعضائها بحمل السلاح لشن هجمات على البريطانيين، ونشطوا في حرم الجامعات؛ وبدأوا حرب عصابات ضد الإنجليز والحكومة.

اهتمام بريطاني

بقي الإخوان المسلمون محور اهتمام البريطانيين خلال السنوات الأخيرة من نظام الحكم القديم في مصر؛ فقد كانت الجماعة، في معظم هذه الفترة، هي مصدر القلق الأكبر، لارتباطها بصورة الإرهاب والتطرف.

كان ينظر إلى الإخوان في إطار صورة مجازية متكررة، باعتبارهم التجسيد السياسي لشخصية الدكتور فرانكنشتاين في مصر، ونتيجة لذلك ظلت الجماعة قابعة في حالة من عدم الاستقرار، إذ كانت لا تزال منحلة بصورة رسمية، ولكنها كانت تؤدي دوراً فعالا على نحو متزايد في الحياة العامة. ولم تستعد جماعة الإخوان صبغتها القانونية إلا في مايو 1951، الأمر الذي أثار استياء معظم الدبلوماسيين الغربيين.

على أن التأثير الضار لجماعة الإخوان المسلمين برز فيما بعد أثناء تدهور العلاقات بين القاهرة ولندن؛ فقد ظلت الجماعة تشجع التعنت المتزايد من جانب النحاس في هذا الشأن. وكان الإخوان يرون أن الجهاد هو السبيل الوحيد لتحقيق التحرر الفعلي من «الإنجليز»، والذين هم ـ في اعتقادهم ـ ألد «أعداء» الإسلام، وكانوا يحسبون أن الوجود البريطاني على ضفاف قناة السويس هو آخر تجليات العداء الأبدي بين الغرب والعالم الإسلامي؛ لم يروا بداً من استخدام القوة لمجابهة هذا الوجود.

وعندما اختارت الحكومة الوفدية إلغاء المعاهدة من جانب واحد في أكتوبر عام 1951، ترجم الخطاب الجهادي المتشدد للإخوان إلى أفعال على أرض الواقع؛ فقد شاركت الجماعة بقوة في «الحرب في منطقة القناة» في إطار حملة من الجهاد العنيف وقتل عدد من أعضائها، وشيعت جثامينهم في جنازات حافلة مشهودة.

وسجلت هذه الحرب في الذاكرة التاريخية للجماعة، بوصفها حربهم التي شنوها ضد الإمبرياليين العتاة؛ نيابةً عن عموم المصريين والمسلمين. ومما لا شك فيه أن مشاركة الإخوان في القضية الوطنية كانت ـ على ما يبدو ـ لغرض واحد؛ وهو تعزيز شعبيتهم. وبينما كان الوفد يواجه العديد من الصعوبات في التعامل مع الأزمة القائمة، تساءل العديد من المراقبين عما إذا كانت اللحظة المناسبة قد حانت لوصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم.

وفي هذا السياق، بدأت السفارة البريطانية نفسها في دراسة الشكل والتصرف المحتملين لحكومة يقودها الإخوان، وكان من الواضح أن هذا الاحتمال لم يكن محل ترحيب من جانب السفارة، حتى وإن سارت جميع الأمور على خير ما يرام. غير أنه كانت ثمة اقتراحات بأن وصول الإخوان إلى الحكم ليس أمراً سيئاً إلى هذا الحد، بل يمكن أن يساعد في الواقع على تحقيق تسوية بشأن قضية قاعدة السويس. وقد كانت قيادة الإخوان المحيطة بالمرشد العام حسن الهضيبي تسعى إلى تعزيز هذا التصور، مستغلين المنهج النفعي الإستراتيجي، الذي كان البنا قد تبناه في السابق؛ من أجل التواصل مع البريطانيين في أواخر عام 1951، وتقديم الإخوان على أنهم «معتدلون» يمكن للسفارة العمل معهم.

على أنه يبدو واضحاً أن المسؤولين الغربيين لم يكونوا على قناعة تامة بهذا الأمر؛ فبالرغم من أنهم كانوا يعتمدون باستمرار على نموذج «الاعتدال» في مقابل «التطرف» لفهم الدوافع الداخلية لجماعة الإخوان، فإنهم لم يكونوا مقتنعين بقدرة الهضيبي «المعتدل» على كبح جماح أتباعه «الأشد تطرفاً»، إلى جانب أنهم لم يغفلوا أبداً عن الهوة الكبيرة بين بعض التصريحات السلمية التي كانت تطلقها قيادة الإخوان، وبين غيرها من البيانات التي كانت تحض على الجهاد بوضوح تام.

إثارة القلاقل

وفي السياق ذاته، لم يكن هناك أي إنكار من جانبهم لأعمال العنف المتواصلة، التي كان الإخوان يشاركون فيها في منطقة القناة. وكانت تلك الحملة التي ساعدت على إزاحة الوفد من الحكم في أواخر يناير بعد الدمار الذي لحق بالقاهرة خلال أحداث السبت الأسود؛ والعجيب هنا أن دور الإخوان أنفسهم، خلال تلك الأحداث المهمة والمؤثرة، كان محدوداً، لكن «كفاحهم المسلح» كان قد عبد الطريق لإثارة القلاقل في العاصمة.

على أن الإخوان بدوا فيما بعد وكأنهم في حالة من التردد؛ إذ في خلال الأشهر الأخيرة من العهد الملكي، كانت الجماعة واقفةً إلى حد ما على هامش الحياة السياسية المصرية؛ بينما كانت الحكومات تتعاقب واحدةً تلو الأخرى. ومع ذلك ظل الإخوان في نظر البريطانيين حاضرين في الأفق، على نحو جدير بالخوف والترقب.

ومع دخول مصر مرحلةً من التغيير الثوري السريع، ظل الجدل القائم حول طبيعة الإخوان المسلمين ووضعهم هو الشاغل الدائم على صعيد الحياة السياسية في مصر.

في عام 1952 تولى الضباط الأحرار السلطة في مصر، وخلال عامين مرا على تقلدهم السلطة، لعب الإخوان دورا محوريا في الساحة السياسية.

وكانت العلاقات الغربية مع قادة البلاد الجدد محكومة جزئيا بالتصورات المتغيرة عن دور الإخوان، ففي البداية، خشي كثير من الدبلوماسيين، خاصة السفارة البريطانية، من أن الجماعة كانت القوة المؤثرة على النظام، وعزز هذا القلق من ميلهم الطبيعي للارتياب ممن يطلقون على أنفسهم لقب الثوار، الذين دمروا الدستور الذي وضعوه في مصر.

وعلى النقيض من ذلك، كان الأمريكيون على بينة من الطبيعة الحقيقية لحركة الجيش، ودعموا مجلس قيادة الثورة بوصفه قوةً تسعى للتحديث، وتعد مواليةً للغرب حقًا.

وكانت وكالة الاستخبارات المركزية والسفير كافري خصوصاً داعيين متحمسين لبناء علاقات وثيقة بجمال عبد الناصر، الذي اعتبروه أتاتورك جديداً محتملا، أما البريطانيون فاستغرقوا وقتاً أطول بكثير ليقتنعوا بحكام مصر العسكريين.

ولكن ما جمع لندن وواشنطن كان الإيمان الراسخ بضرورة إبعاد الإخوان و«المتطرفين» الآخرين عن ممارسة السلطة. وبنهاية عام 1952، قبل المسؤولون البريطانيون بوجهة النظر الأمريكية القائلة بأن مجلس قيادة الثورة هو أفضل ويمكن من خلاله تحقيق أهدافهم. من ثم أيدوا عبدالناصر وزملاءه، بوصفهم الشركاء «المعتدلين» الذين يسرهم التعاون معهم.

وأمل الإخوان في الكثير من الأحيان في تغيير الطريقة التي ينظر بها الغرب إليهم. وأنفقت الجماعة الوقت والجهد في محاولة كسب تعاطف الأمريكيين، خاصةً بالتأكيد على رفض الإخوان للشيوعية، وعلى أن «اعتدالها» معروفٌ للجميع.

وأرسلت رسائل مشابهة إلى البريطانيين، الذين كانت لديهم أسبابٌ للتعاطي مع الإخوان خلال هذه المرحلة. فقد كان البريطانيون يحاولون معرفة موقف الجماعة من مسألة قناة السويس، حتى يتسنى لهم تقوية موقفهم خلال المفاوضات الرسمية. وعلى الرغم من أن عبد الناصر سمح لقادة الإخوان بالتواصل مع البريطانيين؛ فإنه استخدم هذا الأمر فيما بعد في ضرب الجماعة عندما قرر معاداتها.

وقد أحدث إعلان التواصل الذي جرى بين الإخوان والبريطانيين ضجة كبيرةً، وقد استخدمت السلطات المصرية هذا الكشف في وصم جماعة الإخوان بالخيانة. ولذا يسهل أن نفترض أن غضب الحكومة من سلوك الإخوان كان مدفوعاً بنظرة مفعمة بسوء الظن.

وفي نهاية المطاف، لم تتطور العلاقة بين الإخوان ومحاوريهم الغربيين أبدا، ويرجع ذلك ـ بشكل كبير ـ إلى أن كليهما لم يلتزما بها بإخلاص؛ فبالنسبة للإخوان، لم يعن استعدادهم للتحاور مع البريطانيين أنهم راغبون في التآمر معهم ضد النظام؛ بل على العكس من ذلك، فقد ذكر المرشد العام، فيما بعد، عمر التلمساني، أنه إذا كان للإخوان أن يطلبوا العون من أحد في صراعهم ضد عبدالناصر؛ فإن الإنجليز سيكونون آخر من يفكر الإخوان في طلب العون منه؛ نظراً لعداوتهم التاريخية.

ولم يختلف الأمريكيون والبريطانيون في نظرتهم إلى الإخوان، فظلت مسلطةً على «تطرف» الجماعة. وعززت هذه الصورة مشاركة الإخوان علانيةً في محاولة إجلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس بالقوة، إضافةً إلى دعوة الجماعة.

وأدى هذا الموقف المتشدد إلى تسميم العلاقات، ليس بين الإخوان والغرب فقط، بل بين الإخوان والنظام كذلك.

وبعد يوليو 1952، سرعان ما تبين أن الإخوان قد حظوا بعلاقة طيبة بالضباط الأحرار، فمن الناحية الأيديولوجية، كان هناك عدد من نقاط الالتقاء، وكانت شخصياتٌ مبرزةٌ من مجلس قيادة الثورة أعضاء سابقين بجماعة الإخوان المسلمين، ومنهم جمال عبد الناصر نفسه. ومع ذلك؛ فإن الغموض قد أحاط بالنظام في أعقاب الثورة، وتسببت طبيعة العلاقة الشخصية الصعبة التي ربطت حسن الهضيبي بجمال عبد الناصر في كثير من المشكلات.

وزادت حدة التوتر؛ بسبب عدم الاستقرار الداخلي الذي واجهه الهضيبي داخل جماعة الإخوان، وميل عبد الناصر إلى التدخل فيه.

أوضاع مضطربة

بين يوليو 1952، ونهاية 1953، ظلت الأوضاع مضطربةً، وبقيت الأسئلة التي خلفها النظام القديم، أو التي نشأت عن الثورة دون إجابة، وكان بعضها يدور حول مثلث العلاقة الحرج بين الإخوان، والنظام، والبريطانيين، ولكن عام 1954 كان عام الحسم؛ فالخلاف المصري البريطاني الذي أدى إلى زعزعة استقرار السياسة المصرية لعقد من الزمن، قد حل أخيراً. وأسفرت هذه التسوية عن تحولات مهمة في السياسة المصرية والبريطانية على السواء؛ فمن ناحية، شفي إيدن من مرضه، وانتصر في معركته مع تشرشل. ومن ناحية أخرى أهم، صدع نجم عبد الناصر في القاهرة، بعد صراعه مع محمد نجيب، ثم الإخوان بعد ذلك.

وعجلت أحداث المنشية في أكتوبر من ارتفاع وتيرة الصدام بين الإخوان والنظام؛ هذا الصدام الذي كان في بداياته بالفعل. وفي وقت سابق من هذا العام، أوضح مجلس قيادة الثورة بشكل جلي أنه لن يقبل أي منافسة؛ فالتحرك الذي بدأ في يناير لقمع الإخوان قد توقف خلال أزمة فبراير ومارس بين عبد الناصر ومحمد نجيب، ولكن هذا لم يعن أن الصدام انتهى؛ بل تأجل فقط.

وخلال أغلب عام 1954 كان هناك «هدنة» على دخن في أفضل الأحوال. وأطلقت معاهدة الجلاء الإشارة لتجدد العداء، وفي نهاية أشهر الصيف، كان الطرفان يناوران للحصول على الأفضلية، وحدثت أولى حالات اعتقال لأعضاء الجماعة. وفي ظل هذه الظروف، قدمت محاولة اغتيال عبد الناصر مبررا للنظام للمضي قدما في طريق كان قد بدأ في سلوكه بالفعل.

ولم يجد المسؤولون الغربيون كثيرا من الأسباب لمعارضة حل الجماعة التي رأوا أنها خبيثة الطوية، ومتطرفة، وخطيرة، وستصبح مصر أفضل حالا بالتأكيد عند التخلص منها.